العشماوي وقصيدة رائعة عن طفلة مشردة
غِبْ يا هِلالْ
إنِّي أخافُ عليكَ مِنْ قَهْرِ الرِّجَالْ
قِفْ مِن وَرَاءِ الغَيْمِ لا تَنشُرْ ضَيَاءَكَ فَوقَ أَعنَاقِ التِّلالْ
غِبْ يَا هِلالْ
إنِّي لأَخْشَى أَنْ يُصَيبَكَ حينَ تَلْمَحُنَا الخَبَالْ
أَنَا يَا هِلالْ .. أَنَا طِفْلَةٌ عَرَبِيَّةٌ فَارَقْتُ أُسْرَتَنَا الكَرِيمَةْ
لِي قِصَّةٌ دَمَوِيَّةُ الأَحْدَاثِ بَاكِيَةٌ أَلِيمَةْ
أَنَا يَا هِلالْ .. أَنَا مِن ضَحَايَا الاحتِلالْ
أَنَا مَنْ وُلِدْتُ وَفِي فَمِي ثَدْيُ الهَزِيمَةْ
شَاهَدْتُ يَومَاً عِنْدَ مَنزِلِنَا كَتِيبَةْ
فِي يَومِهَا كَانَ الظَّلامُ مُكَدَّسَاً مِن حَولِ قَرْيَتِنَا الحَبِيبَةْ
فِي يَومِهَا سَاقَ الجُنودُ أبِي وفِي عَينَيهِ أَنهارٌ حَبيسَةْ
و تجَمَّعَتْ تِلكَ الذِّئابُ الغُبْرُ فِي طَلَبِ الفَريسَةْ
ورَأَيْتُ جُندِيَّاً يُحَاصِرُ جِسْمَ وَالِدَتِي بِنَظْرَتِهِ المُرِيبَةْ
مَا زِلْتُ أَسْمَعُ يَا هِلالْ .. مَا زِلْتُ أَسْمَعُ صَوتَ أُمِّي وَهيَ تَستَجْدِي العُرُوبَةْ
ما زِلْتُ أُبْصِرُ خِنْصَ خِنجَرِهَا الكَرِيم .. صَانَتْ بِهِ الشَّرَفَ العَظِيمْ
مِسكِينَةٌ أُمِّي فَقَدْ مَاتَتْ وَمَا عَلِمَتْ بِمَوتَتِهَا العُرُوبَةْ
إنِّي لأَعْجَبُ يَا هِلالْ !
يترنَّمُ المِذْيَاعُ مِن طَرَبٍ وَيَنتَعِشُ القَدَحْ
وتَهِيجُ مُوسِيقَى المَرَحْ
والمُطرِبُونَ يُرَدِّدُونَ عَلَى مَسَامِعِنَا تَرَانِيمَ الفَرَحْ
وبَرَامِجُ التِّلْفَازِ تَعْرِضُ لَوحَةً للتِّهْنِئَةْ :
" عيدٌ سعيدٌ يا صِغَارْ " !
والطِّفلُ في لُبنانَ يَجهَلُ مَنْشَأَهْ
وبَرَاعِمُ الأَقْصَى عَرَايَا جَائِعُونَ
والَّلاجِئُونَ يُصَارِعُونَ الأَوْبِئَةْ !
غِبْ يَا هِلالْ
قالُوا سُتْجُلُبُ نَحْوَنَا العِيدَ السَّعيدْ
عيدٌ سَعيدْ ؟!
والأرضُ مَا زَالَتْ مُبَلَّلةَ الثَّرَى بِدَمِ الشَّهِيدْ
والحَرْبُ مَلَّتْ نَفْسَهَا وَتَقَزَّزَتْ مِمَّنْ تُبِيدْ
عيدٌ سعيدٌ في قُصُورِ المُترَفِينْ
عيدٌ شقيٌّ في خِيَامِ الَّلاجِئِينْ
هَرِمَتْ خُطَانَا يا هِلالْ
وَمَدَى السَّعَادَةِ لَم يَزَلْ عَنَّا بَعِيدْ
غِبْ يَا هِلالْ .. لا تأتِ بالعِيدِ السَّعيدِ مَعَ الأَنِينْ
أَنَا لا أُريدُ العِيدَ مَقْطُوعَ الوَتِينْ
أتَظُنُّ أنَّ العِيدَ فِي حَلْوى وأَثْوَابٍ جَدِيدَةْ ؟
أتَظُنُّ أنَّ العِيدَ تهنئةٌ تُسطَّرُ فِي جَريدَةْ ؟
غِبْ يا هِلالْ
واطلُعْ عَلَينَا حِينَ يَبْتَسِمُ الزَّمَنْ
وتَمُوتُ نِيرَانُ الفِتَنْ
اطلُعْ عَلَينا حِينَ يُورِقُ بابتِسَامَتِنَا المَسَاءْ
ويذوبُ في طُرُقَاتِنَا ثَلْجُ الشِّتَاءْ
اطلُعْ عَلَينَا بالشَّذَى .. بالعِزِّ بالنَصْرِ المُبينْ
اطلُعْ عَلَينَا بالْتِئَامِ الشَّمْلِ بَيْنَ المُسلِمِينْ
هَذَا هُوَ العِيْدُ السَّعيدْ
وسواهُ لَيْسَ لَنَا بِعِيْدْ
غِبْ يا هِلالْ
حتَّى تَرَى رَايَاتِ أُمَّتِنَا تُرَفْرِفُ فِي شَمَمْ
فُهناكَ عِيدٌ .. أيُّ عِيدْ ..
وهُناكَ يَبتَسِمُ الشَّقِيُّ مَعَ السَّعِيدْ