الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن تعلم أمور الإيمان والعقيدة وما يستقيم به توحيد العبد وينقى من شوائب الشرك لهو أوجب الواجبات وأولها في حياة العبد،
إذ لأجل هذا خلقه الله ولأجله يحيا في هذه الحياه. قال تعالى" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" الذاريات :56, قال علماء التفسير أي: إلا ليوحدون.
ولذلك نرى النبي صلى الله عليه وسلم يمارس رسالته ويؤدي مهمته التي كلفه الله بها في الدعوة إلى التوحيد
ونبذ الشرك حتى مع الأطفال والغلمان، وهذا يدل على عظيم أمر هذا العلم وعظيم قدره.
ونراه يُعلم ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو غلام صغير " يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ،
احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ،
وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ،
وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2516, خلاصة حكم المحدث: صحيح
هذا الحديث الجامع بعض أبواب الإيمان أخذه ابن عباس من في النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام ليتعلمه و يعمل به
ولنا إن شاء الله مع أول جملة من هذا الحديث وقفتين:
وقفة مع قوله "احفظ الله" وأخرى مع "يحفظك"
احفظ الله
كيف نحفظ الله تعالى؟
هل نحفظه بحفظ قول لا إله إلا الله فقط؟! وهل نحفظه بأن نعرف فقط أنه موجود وانتهى الأمر؟!!
أهكذا يحقق العبد الإيمان الكامل؟! وهل نكون بذلك نفذنا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما وللأمة من بعده؟
الأمر قطعًا ليس كذلك فقد علمنا الله كيف نحفظه وعلمنا رسوله كيف نحفظه.
فحفظ الله تعالى يعني ثلاثة أمور "جمعت الدين كله":
1- حفظ مقام الله تعالى. 2- حفظ حدود الله تعالى. 3-حفظ أوامره جل جلاله.
أولاً : حفظ مقام الله: إن لله تعالى بالنسبة للعبد مقامين:
مقام الدنيا وهو مقام "المــــــراقبـــــــة"
مقام الآخرة وهو مقام "المـــــحاسبــــة"
فحفظك لمقام الله يتضمن حفظ مقام مراقبة الله تعالى لك في الدنيا بأن تعلم علم اليقين أنه ما من عمل تعمله إلا والله تعالى مطلع عليه وناظر إليه،
يرى أعمالك ويسمع كلامك فتحرص دائمًا علي ألا يري منك إلا كل بر، ولا يعلم عنك إلا كل خير،
قال تعالى " إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " المجادلة:1,
وقال جل جلاله "وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " الحجرات:1,
هذا الحفظ يتضمن "تطهير" محل نظر الله إليك وهو "قلبك وعملك"
قال صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» صحيح مسلم,
فتطهر قلبك من كل شريك مع الله تعالى سواء أشركته في حبه أو في الخوف منه أو في التوكل عليه أو في الاستعانة به وغير ذلك مما سنذكر بالتفصيل في موضع آخر إن شاء الله.
وتطهر عملك بأن يكون أولاً خالصاً ثم ثانياً بأن يكون وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
قَال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» صحيح مسلم, وقال الُفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَلَا يَقْبَلُهُ إِذَا كَانَ خَالِصًا لَهُ إِلَّا عَلَى السُّنَّةِ" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6456) بسند حسن
وحفظك لمقام الله يتضمن حفظ مقام محاسبة الله تعالى لك في الآخرة، بأن تعلم علم اليقين أنك في الآخرة واقف بين يديه وحيدًا فريدًا تتلوا ما عملته في الدنيا من حسنات وسيئات،
وعندها ومخافة لذلك المقام تجتهد أن لا تقرأ أمامه إلا الحسنات ولن يكون ذلك يسيرًا إلا بهجر السيئات .. والله المستعان .. فإذا حققت حفظ المقامين: مقام المراقبة ومقام المحاسبة رزقك الله الجنتين
كما قال سبحانه " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ " الرحمن:46
ثانياً : حفظ حدود الله سبحانه:
اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر ولا زاجراً أعظم مما تضمنته الآيات السابقة وأمثالها
من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه رقيب عليهم ليس بغائب عما يفعلون ، وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلاً
فقالوا : لو فرضنا أن ملكاً قتّالاً للرجال سفّاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً وسيافه قائم على رأسه والنطع
النطع يعنى :- بساط كان يقتل عليه المحكوم عليه بالقتل
مبسوط للقتل والسيف يقطر دماً وحول هذا الملك جواريه وأزواجه وبناته ، فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه وهو ينظر إليه عالم بأنه مطلع عليه ؟!
لا وكلا بل جميع الحاضرين يكونون خائفين وجلة قلوبهم خاشعة عيونهم ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك،
ولا شك – ولله المثل الأعلى – أن رب السماوات والأرض أشد علماً وأعظم مراقبة وأشد بطشاً وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك وحماه في أرضه محارمه
" لكل ملك حمى وحمى الله محارمه..."صحيح البخارى
فحد الله تعالى على حرماته حدوداً وحمى هذه الحرمات فياويله ويالبؤسه ويالشقائه من تخطى هذه الحدود وانتهك هذه المحارم
قال الله جل وعلا "وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " البقرة"229
وقال تعالى "وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ " النساء :14
وقال أيضا " وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ " الطلاق:1,
وحفظ لحدود الله ليس بعدم مجاوزتها وانتهاك حرماتها فقط ولكن يكون بعدم الإقتراب أصلاً من تلك الحدود
قال جل جلاله " تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا " البقرة:229
وقال أيضاً : " تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا "البقرة:187,
وهذه الحدود بين الحرام والحلال أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس أداخلة في الحرام هي أم داخلة في الحلال
ولذلك فمن اتقى الشبهات " وهذا يقتضي عدم الإقتراب منها " فقد استبرأ لدينه وعرضه " صحيح مسلم
وطلب الكمال لهما في الدنيا والآخرة...والله المستعان
ثالثاً : حفظ أوامره جل جلاله:
إن بين المؤمن وبين الله تعالى "عقد إيمان" فمتى آمن العبد فقد وقع العقد وأصبح ملزماً بشروطة حتى يتم البيع ويربح " السلعة الغالية "،
وشروط العقد هي تأدية أوامره واجتناب نواهيه،
ونشاهد هذا في القرآن جلياً واضحاً فعندما يخاطب الله " الناس " يخاطبهم " بالعمومات " من التوحيد والتقوى وغير ذلك "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ" النساء:1
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ " البقرة:21
أما عندما يخاطب " المؤمنين " فإنه يخاطبهم " بتفاصيل لإيمان " من الأوامر والنواهي المختلفة فيقول يأيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وكتب عليكم الصيام وفرض عليكم الحج
وغير ذلك من مفردات الأوامر والنواهي التي يكون حفظها ليس بتأديتها فقط وإنما تأديتها على أكمل الوجوه وأحسنها ... والله المستعان
يـــحفظـــــــــــــك
إذا كان فعل الشرط احفظ الله فإن جوابه يحفظك " والجزاء من جنس العمل
" وحفظ الله للعبد حفظ تام من جميع أنواع المكروهات سواء كانت كونية أو شرعية فإذا حقق العبد الشرط تحقق جوابه بحفظ الله لك
أولاً :في بدنك ومالك وأهلك: قال صلى الله عليه وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة " الراوي: أنس بن مالك بن النضر المحدث: السفاريني الحنبلي - المصدر: شرح كتاب الشهاب - الصفحة أو الرقم: 258, خلاصة حكم المحدث: إسناده ضعيف
ومن قرأ آية الكرسي قبل أن ينام لم يزل عليه من الله حافظ حتى يصبح فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَالَ:" وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ،
فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الحَدِيثَ -،
فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ»
الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 610, خلاصة حكم المحدث: صحيح ,
إلى غير ذلك من الأحاديث
ثانياً: بحفظك ويمنعك من الوقوع في المعصية : كما قال الحسن رحمه الله " هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لمنعهم "
ثالثاً: بحفظك من الوقوع في البدعة
رابعاً بحفظك من الوقوع في الشرك سواء كان أكبر أم أصغر ، ولعلنا إن شاء الله وقدر البقاء واللقاء أن تكون لنا وقفة بشئ من التفصيل في حفظ الله تعالى لعباده الحافظين لمقامه والحافظين لحدوده والحافظين لأوامره